رأس المال البشري ...قاطرة التنمية المستدامة
ما زال الحديث متصلاً بهذا الكنز المكنون – رأس المال البشري – وقد تعرفنا في المقال السابق على ماهية هذا المفهوم، وطبيعة المعايير والمؤشرات التي تحدد رصيد المجتمع من رأس المال البشري. ونحاول في هذا المقال أن نوضح طبيعة العلاقة بين رأس المال البشري والتنمية المستدامة. وطبيعة السمات التي تميز رأس المال البشري في وطننا الغالي دولة الإمارات العربية المتحدة، والدور المحوري الذي يلعبه رأس المال البشري في تحقيق التنمية المستدامة وفي توطين الهوية.
ويمكننا أن نتصور أهمية الدور الذي يلعبه رأس المال البشري في التنمية المستدامة إذا ما أدركنا المعنى العميق لهذه الحكمة التي تقول "إذا أردت أن تحصد سنة فازرع قمحاً ، وإذا أردت أن تحصد لعشر سنوات فاغرس شجرة، وإن أردت أن تحصد لمائة سنة فعلّم الإنسان".
ثمة علاقة متبادلة – إذن – بين التعليم وتكوين رأس المال البشري من ناحية، وبين تكوين رأس المال البشري والتنمية المستدامة من ناحية أخرى، بل إننا نذهب إلى القول بوجود علاقة طردية بين نوعية التعليم وتطوره، ورأس المال البشري من ناحية. وبين رأس المال البشري والتنمية المستدامة ، من ناحية أخرى . فالتعليم هو الوسيلة الأساسية التي يتم من خلالها إعداد وتدريب وتأهيل العنصر البشري، وإكسابه مهارات الابتكار والإبداع المستمر.وبالتالي يمد المجتمع بالكفاءات والمهارات، التي تتحمل مسؤولياتها، بكفاءة واقتدار، وريادة، لإنجاز مهام التنمية. والأهم أنه يعد الوسيلة الأساسية التي ترتقي بالقدرات الذهنية والمعرفية للعنصر البشري، كما أنه الوسيلة الأساسية التي تؤهل الأفراد للمنافسة الجادة والواعية ، في مجتمع المعرفة وثورة المعلومات. ويفضي كل ذلك – في المقام الأخير– إلى زيادة رصيد المجتمع من رأس المال البشري، الذي يثمر – حال تراكمه تراكماً كمياً وكيفياً – تحقيق مستويات أعلى من التنمية المستدامة، في الحاضر والمستقبل. بحيث يصبح العنصر البشري هو قاطرة التنمية المستدامة بحق.
ومما يدعو إلى التفاؤل والفخر أن، الإمارات قد حققت تقدماً غير مسبوق على صعيد تكوين رأس المال البشري. وقد ظهر ذلك جلياً من خلال اهتمامها بالتعليم، الذي يمثل حجر الزاوية في تكوين رأس المال البشري. حيث تجاوزت نسبة التحاق الأطفال بالتعليم 95 في المئة، كما بلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة بين جيل الشباب ( 15-24 ) حوالي 87 في المئة. وبلغ معدل الإلمام بالقراءة والكتابة للبالغين 88.7 في المئة ، وبلغ معدل الإلتحاق بمراحل التعليم الثانوي 85.7 في المئة. كما ارتفع معدل الالتحاق بالتعليم الثانوي لدى الإناث من 49 في المئة عام 1980، إلى 94 في المئة عام 2006. ومن 55 في المئة إلى 91 في المئة لدى الذكور، خلال الفترة نفسها. وبلغ معدل الالتحاق بالتعليم بعد الثانوي 23.2 في المئة . وتناقص معدل الأمية للبالغين ( 15 سنة فأكثر إلى حوالي 10.2 في المئة. كما ارتفع معدل الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الذكور من 72 في المئة عام 1980، إلى 90 في المئة عام 2005. وارتفع لدى الإناث من 64 في المئة إلى 88 في المئة. كما ارتفع المعدل العام لمعرفة القراءة والكتابة من 70 في المئة، إلى 89 في المئة، خلال الفترة ذاتها.
ترتب على ذلك أن حققت الدولة تقدماً واضحاً على صعيد المقومات اللازمة لتكوين رأس المال البشري. حيث حققت الدولة معدل رصيد من رأس المال المعرفي الكمي المتحصل من خلال التعليم عند الأطفال 84 في المئة، وعند الشباب 67 في المئة، وعند الكبار 68 في المئة، بمتوسط عام مقداره 73 في المئة. ( المعلومات الإحصائية مأخوذة من تقرير المعرفة العربي لعام 2009)
لا شك أن هذه المؤشرات الكمية تعكس جوانب التطور في رصيد المجتمع من رأس المال البشري، لكن هذه المؤشرات تكتسب أهميتها البالغة من خلال العديد من المؤشرات النوعية التي تجسد اهتمام الدولة بوضع استراتيجية لبناء الإنسان، الذي هو غاية التنمية المستدامة ووسيلتها. والأهم أن التعليم يقع في القلب من هذه الاستراتيجية، حيث أطلقت وزارة التربية والتعليم استراتيجية تنهض بالتعليم خلال عشر سنوات (2010- 2020 ) تضع الطالب في بؤرة العملية التعليمية، وتنهض بقدراته وإمكانياته في كل مراحل تعليمه، حتى تخرجه من الصف الثاني عشر. كما أن مجلس أبوظبي للتعليم ينطلق من رؤيه تسعى نحو " توفير نظام تعليمي ذي مستوى عالمي، يدفع جميع الطلبة نحو استغلال كامل إمكاناتهم وقدراتهم بما يجعلهم مؤهلين للتنافس على المستوى العالمي".
يتواكب ذلك مع حرص الدولة على تحقيق الريادة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، من خلال العمل على "تخريج كوادر مؤهلة منافسة عالمياً من خلال بيئة تعليمية متميزة ".
وإذا كانت المحصلة النهائية لكل ذلك تتمثل في أن يصبح رأس المال البشري هو قاطرة التنمية المستدامة، التي تسعى إلى تحقيق حاجات وطموحات الأجيال الحالية من أبناء وطننا الغالي، دون أن تضحي بحاجات وطموحات الأجيال المقبلة. فهذه المحصلة تفضي، في الوقت نفسه، إلى أن يصبح رأس المال البشري جوهر الهوية الوطنية. بل ويصبح المنبع الأصيل لتوطينها. وذلك من خلال تشكيل جيل واعٍ بمسؤولياته ، في الحاضر وفي المستقبل . تجاه ذاته، وتجاه أسرته، وتجاه وطنه. ويتحملها بأمانة واقتدار، وريادة. ويحافظ على الموروث الثقافي، الذي هو تاريخ أجداده، وذاكرة الوطن، وأصل هويته. كما يحافظ على قيم وعادات وتقاليد المجتمع، ويتفاعل تفاعلًا إيجابياً مع ما تفرضه ثقافة العولمة وثورة الاتصالات من تحديات ومخاطر على نسيج الثقافة الوطنية، بل يستطيع أن يحول هذه المخاطر والتحديات إلى فرص ومكاسب تقوي من نسيج الثقافة الوطنية، وتزيد من قدراتها على المنافسة في مجتمع المعرفة وثورة المعلومات. عندئذ يصبح رأس المال البشري قاطرة التنمية المستدامة، وجوهر الهوية الوطنية، والمنبع الأصيل لتوطينها. وعندئذ يصبح المواطن الإماراتي هو " روح الاتحاد" التي لن تنطفئ شعلتها أبداً.